زودنا الباحث السوري محمد جمال باروت بمقاطع من مخطوط كتابه " مراحل إعمار الجزيرة السورية " المتوقع صدوره قريبا بين فيها بشكل علمي تاريخ نشوء مدينة الرقة خلال الفترة العثمانية .
نعرض عليكم هذه المقاطع (الواردة بشكل موسع و موثق في كتابه) مدعمة بالصور النادرة من أرشيفي الخاص .
جاء في مخطوط الكتاب :
إعمار الرقة والتعاقد الحضري
قسّم الجغرافيون العرب الجزيرة استناداً إلى هيمنة القبائل العربية عليها إلى ديار ربيعة( ومركزها الموصل) وديار مضر( مركزها الرقة) وديار بكر( مركزها آمد).
وكانت الرقة وفق هذا التقسيم ( ديار مضر) الذين استقروا فيها منذ ماقبل الفتح الإسلامي لإقليم الجزيرة بقرون عديدة.
تقع الرقة على ضفة الفرات الشرقية، وسط زاوية اللقاء بين نهر الفرات ونهر البليخ.
ازدهرت تاريخياً بسبب موقعها العسكري( كمحطة تجمع عسكرية) والتجاري( كنقطة تقاطع بين الطرق التجارية المتجهة من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب بين الجزيرة الفراتية والشام والعراق وأرمينيا وآسيا الصغرى والبحر المتوسط)، والزراعي( بسبب تطور أنظمة الري فيها) والديني( كمركز ديني تاريخي سرياني أو يعقوبي تخرج منه حتى خرابه في القرن الرابع عشر أكثر من عشرين مطرناً وأسقفاً) .
شكّلت الرقة في العهد العثماني عاصمة المجال المعمور في الجزيرة، وكان والي حلب يطلق عليه اسم والي حلب والرقة ، لكنها تعرضت للخراب في أوائل القرن السابع عشر، بعد فشل برنامج الإعمار العثماني الأول لمنطقة البليخ والرقة.
وحين تم إعمارها في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، لم يكن معموراً فيها سوى واحد بالمئة من أراضيها.
شكّل إنشاء الحكومة المركزية لمراكز إدارية حكومية" ثابتة" في عقد المواصلات الطرقيّة، لضمان أمنها، محور عملية التحضر ومن ثمّ عملية التمدين اللاحقة لعملية التحضر في الإقليم.
سرعان ماجذب الموقع الآمن نسبياً لهذه المراكز الإدارية تجمعات حضرية حوله نشأت في داخله نويّات المدن الجديدة حول تحالفات محلية خاصة ممهورة بعقد اجتماعي تحالفي" شرفي".
وكانت هذه هي حالة تكون مدينة الرقة نموذجياً.
ويشير مثال الرقة إلى تكون التجمع الحضري حول مركز إداري حكومي يوحي بالأمن والحماية.
في الواقع فإن تشكل مدينة الرقة يشرح تشكل النويات المدينية حول المراكز الإدارية، والمخافر، أو محطات سكك الحديد، أي حول مراكز الدولة.
بنيت الرقة في الموقع الذي كانت تقوم فيه مدينة نيقوفوريون Nicephorion و تأسست نويات بلدة الرقة كمركز حضري في جوار مدينة الرافقة التاريخية المندثرة ( كان قد أسّسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في العام 772م) حول مخفر الدرك الذي أقامته السلطات العثمانية في العام 1865 لمراقبة عبور نهر الفرات نمواً سريعاً نسبياً.
كان إعمارها متأخراً نسبياً عن عمران بلدة دير الزور، إذ بدأ التحول من السكن في بيوت الشعر إلى بناء أول بيت طيني-حجري في العام 1880م .
تجمع المتحضرون الأوائل الذين أسسوا المدينة في اتحادين محليين هما " الأكراد" و" العشاريون"( نسبة إلى العشارة جنوب الميادين).
قدموا إلى الرقة لأسباب اقتصادية أو وظيفية أو لأسباب النزاع العشائري، ولكن بصفة عائلات وليس بصفة عشائر، كان هناك عدد من العائلات العربية في حلف" الأكراد" المنحدر من طي والمليين والدليم.
وشكل وجود مخفر الدرك، وتحسن حالة الأمن جاذباً لهم للاستقرار وللجمع بين نمطي الحياة الزراعية في الشتاء والرعوية في الربيع والخريف.
ربما كان استظلال العائلات الأولى التي استقرت في الرقة تحت حماية الدرك هو الذي دفع إلى وصفها من قبل البدو باسم"الغول" وهي تعريب محرّف لكلمة" قرقول" التركية التي تعني مخفر درك.
وقد عقدت هذه العائلات فيما بينها نوعاً من عقد تحالف أمان وتضامن في مواجهة البدو، يمكن وصفه بنوع من تعاقد اجتماعي حضري وليد.
لم يكن هذا التحالف يخلو من التوتر والصراع على الموارد، وتحديداً مورد الأرض المشاع الذي كان يوزع سنوياً بين الاتحادين، ولكنه كان يجد دوماً تسويةً له صبت نتائجها في تعزيز عملية التحضر، والتوسع في زراعة مناطق الطمي التي تنحسر عنها فيضانات الفرات.
الزراعة التي كانت زراعة معاشية وليست زراعة تجارية وتعزز ذلك بالتفاهم مع رئيس عشائر الفدعان( عنزة) بن مهيد الضاربة في تلك المنطقة، والمسيطرة عليها من تل أبيض إلى مشارف حلب، والتي اعتمدت عليها السلطات العثمانية في سياقٍ معقدٍ من الصراع في حماية طريق حلب- منبج- أورفة
أحدث إقبال تجار أورفة( الرها) وحلب على شراء أراض في واديي البليخ الأسفل والأعلى منذ العام 1881 تغييراً كبيراً في تحويل الزراعة من زراعة الاكتفاء الذاتي المعاشية إلى زراعة تجارية موجهة إلى التصدير ..
بات ارتباط الرقة أكثر تشابكاً مع أورفة من خلال تحسين الحكومة لطرق العربات من منبج إلى أورفة، وافتتاح الطريق الجديد في العام1907. .
كان معظم الأراضي يقع في" الدلتا الخصبة جداً" بين البليخ والفرات شرقي الرقة.
كما طور أنظمة الريّ وفق بقاياها التاريخية الاستثمار الزراعي لتجار حلب وأورفة .
حتى أواخر العهد العثماني وبدء عهد الانتداب الفرنسي كان هناك عدة قنوات ري كبيرة على امتداد بضعة كيلومترات عن البليخ .
وبفضل ذلك وصل عدد قرى الرقة في غضون عقدين ونيف إلى( 148) قرية.
طوّرت الحكومة فضاء البلدة، فافتتحت في أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني بعض المدارس الابتدائية فيها.
في العام 1912 وصل عدد سكان الرقة إلى حوالي( 300) عائلة مستقرة حضرياً. .
لايرتد هذا التوسع الذي سيستمر حتى أواخر عهد الدولة العثمانية إلى حركة الزيادة الطبيعية بقدر مايرتد إلى الهجرة الخارجية الوافدة، فلقد استقبلت الرقة عدداً من المهاجرين الأتراك من سكان براجيك( البراجكلية)، الذين أخذوا يوسعون المجال الحضري بزراعة كروم الأشجار المثمرة، ودربوا سكان البلدة على تقنيات زراعة البطيخ الأصفر(القاوون) الذي تبذر بذراته في الأراضي القريبة من الفرات.
ثم استقبلت الرقة في سنة 1906 وسنة 1917حوالي(200) عائلة جركسية من قبائل قبرداي بقيادة طالوستان أنزور و قبائل يجدوغ، ومنحتهم البلدية العثمانية أراضٍ لزراعتها.
انضم المهاجرون فعلياً إلى تحالف أو تعاقد( الغول) المؤسس للبلدة عبر حماية آل العجيلي لهم.
ولكن حوالي ثلاثة أرباع هذه العائلات انتقلت من الرقة إلى أماكن أخرى في منبج والشمال الغربي في حلب.
ثم أخذت تفد بعض الموجات الصغيرة لعشيرة السخانة وتستقر منذ العام 1895 في البلدة، ثم مجموعات تنحدر من الجبور والنعيم.
ومنذ العام 1915 توطّن في البلدة حوالي( 150) أسرة أرمنية مهجّرة قسرياً من أورفة في المدينة الفتية، كانوا ممن تبقى من اللاجئين الأرمن الذين مكثوا لفترة قصيرةٍ في الرقة .
في أواخر العهد العثماني كانت مدينة الرقة تتميز بتنوعها الاثني المركب، وتشير أصول العائلات الأولى التي أسست نواة المدينة، كما الهجرات التي استوعبتها، إلى أن سكان الرقة كانوا مؤلفين من عرب منحدرين من عدة عشائر عربية( بو بدران، عقيدات، مصاليخ شمر، موالي، طيّ، دليم) وقد قدموا من نواحي الموصل ومن بلدة العشارة ومن نواحي أورفة، ومن أكراد ينحدرون من عشيرة المليّة في نواحي أورفة وشرقي ديار بكر، وأتراك ينحدرون من براجيك، وجراكسة وشيشان، وأرمن.
وقد تعزز الترابط مابين أبناء المدينة من خلال الزواج المختلط مع تحالف( الغول) المؤسس للمدينة، فتزاوج الجراكسة مع الأكراد والعرب، والأرمن مع المسلمين.